11 نوفمبر، 2012

الوسطية و النّفاق السياسي


بقلم الأستاذ بولبابة سالم*

لعلّ مصطلح " الوسطية " هو أكثر المصطلحات تداولا بين الأحزاب السياسية التونسية بعد الثورة أو بين الناشطين في الحقل السياسي و الديني عموما . الكل يدّعي أنّه يمثل المنهج الوسطي و يحتكره لنفسه .
و قد ظهر تداول هذا المصطلح بشدة في الحملة الإنتخابية لإغراء الناخبين بالتصويت لفائدتهم و بعد الإنتخابات لمّا دعا البعض إلى تشكيل ما سماه بالحزب { أو التيار } الوسطي الكبير .
طبعا تبدو هذه الدعوة مقبولة من الناحية السياسية لجمع شتات الأصوات المتناثرة بين الأحزاب الكثيرة التي لها تمثيل نسبي أو الأحزاب المجهرية التي تخاف من الإندثار بعدما عرفت حجمها الحقيقي في أول اختبار انتخابي منذ الإستقلال , لكن هذه الدعوة تحمل موقفا سياسيا من الأطراف الفائزة في الإنتخابات أي أنّ هذه الأحزاب لا تحمل الفكر الوسطي.

فيكون السؤال هو : كيف اختار الشعب أحزابا غير وسطية ؟ فهل أن الشعب لا يميل إلى الوسطية ؟ و إذا كان الأمر كذلك فلمن تُشكل جبهة وسطية إذا كان الشعب لا يميل إلى الوسط فهل سنتوجه بها إلى شعب آخر في الإنتخابات القادمة ؟

تبدو هذه التساؤلات أقرب إلى السخرية السياسية و الحقيقة أن النخبة السياسية هي التي لاكت هذا المصطلح حتى فقد معناه لأنه دخل لعبة المزايدات و الصراع الإيديولوجي. كانت أكثر كلمة كررها بن علي سابقا في خطاباته هي " الديمقراطية " و كل ما يقع تداوله بكثرة فهو غير موجود في الواقع و الممارسة .

يشير مصطلح الوسطية إلى الإعتدال و الإبتعاد عن التطرف اليميني و اليساري و اتخاذ مسافة في كل تصوّر اقتصادي أو اجتماعي أو ديني أو سياسي من هذين الطرفين . لكن هل كانت الممارسة في مستوى الخطاب ؟ تدّعي أغلب الأحزاب السياسية أنها متمسكة بهويتها العربية الإسلامية و فخورة بالإنتماء الحضاري لتونس كما تتبنى الحداثة و الديمقراطية و حقوق الإنسان و حقوق المرأة و المساواة بين الجنسية .هذه المقولات موجودة في أدبيات أغلب التيارات السياسية و لا نجد اختلافات جوهرية بينها لكن عندما عندما تتنزّل على المحك فسنرى عجبا و تناقضات حادة بين القول و الممارسة .


بعض الأحزاب تدّعي أنها متمسكة بهوية الشعب التونسي لكنها في الواقع تعيش توترا حقيقا مع العروبة و الإسلام وهما قطبا الهوية الحضارية. و قد ظهر ذلك في أحداث كثيرة عاشتها البلاد من الفيلم المسيء للذات الإلهية إلى فيلم نادية الفاني " لا ربي لا سيدي " إلى الجدل الذي ظهر عند صياغة الفصل الأول من الدستور حيث ظهر من يشكك في هوية الشعب التونسي العربية الإسلامية , هذا التناقض أظهر هذه الأحزاب كأطراف غير أمينة على هوية التونسيين فعاقبها الشعب في الإنتخابات فانكشف نفاقها . كما تدّعي أطراف أخرى تتبني قيم الحرية و الحداثة و حقوق الإنسان و المساواة لكنها تتردد عند ممارسة هذه الشعارات فيضيق صدرها بمن يخالفها الرأي و تلتجئ إلى التكفير و التشكيك في عقيدة بعض الفرقاء السياسيين الذين يؤمنون بالمرجعية الكونية لحقوق الإنسان .

و للمفارقة أننا نجد أحزابا تقول إنها اجتماعية و ديمقراطية لكنها في الممارسة تميل إلى الليبرالية و الرأسمالية المتوحشة . الوسطية مصطلح ساحر لكن التونسيين اكتشفوا أن الكثير من القيادات السياسية يمارسون النفاق السياسي , إن الأصالة لا تعني التقوقع على الذات لنعيش خارج التاريخ , و الحداثة لا تعني أن نلغي تراثنا و نرتمي في أحضان الآخر بدعوى مواكبة العصر , الفكر الوسطي هو أن نعتز بخصوصياتنا الحضارية و نتفاعل مع إبداعات الفكر الإنساني في مختلف المجالات و الفنون , أليست " الحكمة ضالة المؤمن و حيث وجدها فهو أحق بها " كما قال الرسول الأكرم صلى الله عليه و سلم . ما يجعل الواحد منّا يخشى أن يطير رأسه من بين كتفيه أن يقول من يتبنّى الفكر اليساري الستاليني أنّه امتداد للشيخ الفاضل بن عاشور ووالده العلامة الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير و التنوير. مشكلة الطبقة السياسية في تونس أنها تمارس خطابا مزدوجا , خطاب موجّه إلى الشعب و آخر يقال خلف الأبواب المغلقة .

أخبار سياسية

ن